حكايات القرية الجزء الثالث

داخل القبو كانت الرائحة لا تطاق، كان ارتفاع السقف منخفضا وهناك فتحة وحيدة صغيرة تمد القبو بالهواء، ومن هذه الفتحة دخلْت، كان القبو بمساحة مهولة أكبر من مساحة القصر نفسه، وهكذا تأكدت أن القبو وُجد قبل أن يُبنى القصر، بحثت عن باب السرداب وقلبي يتواثب بين ضلوعي.. أنا لا أصدق هذه الأشياء ولكن نظرية (ربما كنت على خطأ طول الوقت) تجعل العرق يسيل غزيرا على جبيني، وكهرباء أستاتيكية غريبة تجعل شعر يدي يقف كشعر القنفذ.

كانت الأرض مغطاة بتراب غريب الرائحة، رائحة الكبريت على ما أظن، وأثارته حركة قدميّ عليه، فتصاعد ليدخل إلى أنفي مما جعلني أسعل عدة مرات، صدى الصوت غريب جدا خاصة مع الشعلة في يدي والتي تتأرجح ذات اليمين واليسار بفعل نسمات الهواء الضئيلة.

أخيرا وجدت ما أبحث عنه، باب السرداب، باب خشبي عتيق الطراز يمتد إلى باطن الأرض، سحبته من حلقة معدنية وهو يئن ألما من الشيخوخة وعجز مفاصله، وجدت سلما آخر يتكون من خمس سلالم، فنزلت في بطء وأنا أكتم أنفاسي رهبة، منذ كم سنة ولم يفتح باب هذا السرداب، بل ماذا حدث في آخر مرة فتح فيها باب السرداب؟..

كنت تحت سطح الأرض تماما، كانت هناك غرفة كبيرة نسبيا يمتد منها عدة أنفاق، عددت: واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة.. خمسة أنفاق، اخترت الأوسط وخطوت داخله، هل سأجد ما يشبه التيه بالداخل؟..

بخطوات متوترة مرتبكة -ولكن حثيثة- أخطو داخل النفق، العرق يتصبب مني بفعل التوتر والحر الخانق، رائحة الكبريت، أصوات خطواتي المرتبكة على التراب، وفي النهاية شاهدت ما يحدث داخل المعبد، لم يكن هناك أصوات بل أعين كثيرة تنظر تجاهي.. وبعد ذلك بثانية واحدة كنت أجري بكل ما أوتيت من قوة.. أجري.. أغادر النفق، أغادر السرداب، أغادر القبو، أغادر القصر.. الأسطورة الصينية تقول صندوق داخل صندوق داخل صندوق، وفي أصغر صندوق توجد الجوهرة، ولكنني لم أجد الجوهرة، لقد وجدت أبشع شيء يمكن أن يراه آدمي.. لا يمكنني أن أصف ما وجدته ولكنها أشياء شريرة فعلا.. هناك ما يمشي على السقف وهناك ما يزحف على التراب وهناك ما يشبه الإخطبوط وهناك ما يشبه الثعابين بثلاثة رؤوس.

أجري وأجري بين بيوت القرية ولا أعرف إلى أين؟.. ومن البيوت تتصاعد أغنية غريبة.. أغنية بلغة قديمة، أقدم من وجود الإنسان ذاته، لا أجرؤ على طلب النجدة فأجري بين البيوت، والغناء يتصاعد، والصراخ الشنيع يتصاعد.. هناك من يتلقى عقابه.. أيكون النقيب "عفت" وأهل بيته بعدما أفشوا سر السرداب، لا.. لا أعتقد هذا.. القرية كلها تعرف بشأن السرداب، القرية كلها ملعونة أو تم الاستحواذ عليها من قبل الكيانات القديمة.. ماذا سيحدث إذا فتحنا المقبرة وتركنا المجال مفتوحا لهذه الأشياء للخروج؟

كانت تلك الأشياء تمارس ألعابها معي على نطاق واسع، أعدو في شارع مفتوح لأجد أن جدارا قد ظهر أمامي فجأة، أصرخ لأجد أن الجدار قد انزاح، أواصل الفرار لأجد أمامي بركة كبيرة، أصرخ لتنزاح البركة وأواصل الفرار، هناك من يطاردني، أصرخ وأواصل الفرار، والأصوات تتعالى من البيوت، لاحظت أن هذه هي القرية الوحيدة في مصر التي لم أشاهد فيها أي كلب أو قطة؛ لأن تلك الحيوانات تعرف ما يوجد تحت القرية..

أخيرا وصلت إلى المقابر، وللعجب كانت هذه إشارة جيدة، لقد خرجت من القرية، خرجت.. خرجت.. خرجت.

*************

وصلت إلى القاهرة في حدود الساعة الثالثة صباحا، وجدت عربتي بعد مجهود شاق ولكنني وجدتها كما تركتها بجانب التل، ووصلت في النهاية إلى منزلي وأنا في قمة الإرهاق.. كان جسدي يرتجف وملابسي قد تحولت إلى كتلة من عجين العرق والتراب، لم أصدق ما رأيته بعيني، هذا أكبر مما يصدقه العقل.. حاولت أن أرتاح فوجدت عيني تشتري النوم بلا جدال، وفي ثوانٍ كنت في عالم آخر.. كنت في المقبرة، كنت أشاهد القرابين الذين يتم اختطافهم وهم يواجهون مصير الموت، كنت أشاهد الكيانات وهي تتصارع وتتقاتل على أجزاء من بقايا القرابين.. كنت أشاهد الأشكال الغريبة وغير المألوفة للكيانات القديمة، كنت أشاهد كل هذا حتى استيقظت مفزوعا..

*************

ثلاثة أيام لم أذق فيها طعما للنوم، حاولت ولكن حتى المهدئات والمنومات لم تفلح، دائما الحلم يتكرر فأنهض صارخا وأنا في حالة من التشنج الشديد، ثم عرفت أنهم سيفتحون باب المعبد غدا صباحا، دُرْت في الغرفة كثيرا وحول نفسي محاولا إيجاد جواب لهذا السؤال.. ماذا سيحدث إذا فتحت المقبرة وخرجت هذه الأشياء إلى العالم الخارجي؟.. ذهبت إلى صديقي خبير الأنثروبيولوجي ليجيب عن هذه التساؤلات، فكّر قليلا قبل أن يقول:
- لا تقلق، لن تغادر المعبد أبدا، هي قادرة على الخروج في أي سابق، ولكنها تستمد قوتها من وجودها داخل المعبد..

قلت في عصبية: والحل.. أريد حلا لمشكلتي ومشكلة القرية.

قال في هدوء: أمامك حل من ثلاثة: الأول هو أن تحاول النسيان وثق أن فتح المعبد لن يؤدي إلى أي نتائج مأساوية.. هذه الأشياء كانت موجودة منذ قديم الأزل وستظل موجودة، ما الذي يجعلها الآن فقط خطرا داهما على البشرية.. الثاني هو أن تعود إلى القرية وتعيش بين أهلها وهكذا تنتهي مشكلة الكوابيس والأرق..

قلت في تذمر: هذه الحلول غير عادلة..
قال ببطء: هذا يقود إلى الحل الأخير، أعتقد أن تدمير المعبد سيعني أن هذه الكيانات فقدت المكان الذي تعيش فيه، وهذا يعني إنها ستغادر القرية إلى معبد آخر أو ستنتهي من الوجود..
قلت: ألم تقل أن تلك الكيانات تتمتع بما يشبه الخلود.
أشار إليّ قائلا: نعم لها دورة حياة كبيرة ولكنها تموت كأي كائن حي..
قلت بعد تفكير: أعتقد أنني سأفعلها، تدبير الديناميت ليس بالأمر الصعب بالنسبة لي.. حسنا.. سأفعلها الليلة، ولكن ماذا عن أهل القرية؟..

- أعتقد أنه لا دور لأهل القرية في كل هذا، عصور العزلة التي مرت على القرية وزواج الأقارب جعلت الأطفال مشوَّهين عقليا وجسديا، النقيب "عفت" يضخم الأمور والجثث لا تغادر قبورها بعد الموت أبدا، ربما كانت تلك الكيانات تلتهم الجثث أو ما شابه ذلك، القرية واقعة تحت سيطرة عقلية للكيانات القديمة وليست جسدية، وهذا سبب التصرفات الغريبة لأهل القرية وكرههم للغرباء، تدمير المعبد يعني نهاية أكيدة للكيانات وسيطرتها العقلية، وسيغلق باب السرداب هذه المرة إلى الأبد، وهكذا ستنتهي حكايات القرية ولعنتها وأسطورة القصر، ولكن السؤال هو.. هل ستفعلها حقا؟..
قلت وأنا أهم بالانصراف:
- نعم.. سأفعلها الليلة.. وليكن الله في عوني وعون أهل القرية.

*********
تمت بحمد الله

» حكايات القرية الجزء الثانى
» حكايات القرية الجزء الاول
» العدد الثالث من مجلة شباب الخير _حوده