حكايات القرية الجزء الثانى

كانت هناك مجموعة من النصائح التي وجهها لي أحد أبناء قرية قريبة من "ديم الشلت" يعيش في القاهرة، الرجل يعمل في مجال الأنثروبولوجي ويجيد عمله إلى حد كبير، طبعاً أبدى ذعره أولاً عندما عرف أنني في طريقي إلى "ديم الشلت"، قبل أن يتحفني بهذه القائمة..

أولاً: ألا أحاول الاندماج بأهل القرية..
ثانياً: ألا أقيم في قصر الإقطاعي أو دوار العمدة مهما كانت المبررات..
ثالثاً: أن أدخل القرية ليلاً وأتركها في الصباح لأباشر عملي، لا داعي للبقاء فترات طويلة داخل القرية، وأن يقتصر بقائي في القرية للمبيت فقط.

سألته متوجساً: وأين أبيت إذن؟.. في نقطة الشرطة!..

قال في سرعة: ولا حتى هذه.. هناك نقطتان محرمتان داخل القرية، دوار العمدة ونقطة الشرطة، العاملون داخل دوار العمدة يحكون قصصاً غريبة جداً، وعدد حالات الجريمة داخل القرية منعدمة، والسبب الرئيسي أنهم يخافون من قضاء ليلة داخل نقطة الشرطة، عندها لن تكون الأحلام السيئة هي كل ما يقلق، يمكنني أن أعطيك عنوان أحد أصدقائي داخل القرية لتقيم عنده، يدعى الشيخ "صالح"، رجل مبروك وفي حاله ويختلف كلياً عن أهل القرية..
سألته مذهولاً: وما سبب كل هذا الذعر؟..

طبعا أتحفني صديقي بتلك الحكايات الغريبة عن البركة والجنيات والعفاريت والمردة، قبل أن يواصل السرد ليحكي لي قصصاً عجيبة جداً عن جبروت الإقطاعي السابق، طبعاً ذات الحكايات تجدها داخل أي موروث شعبي، لو ذهبت إلى رومانيا لقيلت نفس الحكايات عن الكونت "دراكولا"، لو ذهبت إلى إسبانيا لقيلت نفس الحكايات عن السنيور "ألبرتور سانشيز"، لو ذهبت إلى "ديم الشلت" لقيلت نفس الحكايات عن "عزت بك".

يقال إن "عزت بك" هو كابوس جاثم على صدر القرية منذ عصور طويلة، وأهل القرية يهولون من قدراته، بل إن بعضهم يجزم بأنه ما زال حياً يرزق وقد فاق عمره المائة أو يزيد. يقولون إنه كان يخرج من قصره ثائراً على جواده، ويسحل كل من يلقاه أو يضربه بالسوط، ومن يتحفه حظه السيئ بمقابلة مباشرة مع "عزت بك" فإنه يتحول سريعاً إلى ما يشبه المجذوب، كأنه يفقد جزءاً من ذاته، كما كانت الاختفاءات شائعة جداً في القرية قبل عهد الثورة، نساء ورجالاً وشيوخاً وأطفالاً وغرباء، هناك من كان يخرج لصلاة الفجر فلا يعود أبداً، والكل فسر ذلك بحكايات العفاريت والجنية والبركة في منتصف القرية، ولكن أهل القرية كانوا يجدون دائماً آثار الجثة مجرورة على التراب والآثار تقود إلى داخل القصر، والسبب؟.. أن معظم أهل القرية فسروا أن "عزت بك" يستمد قوته وشبابه من سرقة أرواح أهل القرية.. حتى بعد ردم البركة لم تنتهِ الاختفاءات، ولكنها قلّت بعض الشيء، وتقتصر حاليا على اليتامى والمعاقين ذهنياً وخصوصاً الغرباء، بالطبع لكي لا يبحث وراءهم أحد.. يقولون إن سهراته كانت تمتد طوال الليل بأضوائها البراقة وموسيقاها الصاخبة وسط ليل وسكون القرية، وعادة ما ينتهي كل هذا بحفلة صراخ شنيع، وكأن هناك من يسلخ حياً، يقولون إنه كان يتصل بسكان القرية القديمة.

سألته في حذر: وما هي القرية القديمة؟..

قال في حيرة: لا أحد يدري تحديداً، ولكن يمكنني أن أطلعك على حكايات القرية!..
الأمر يشبه الحكاية الصينية عن صندوق داخل صندوق داخل صندوق، تنظر إلى الصندوق الكبير وتحاول فتحه لتجد صندوقاً أصغر، تفتحه لتجد آخر وهكذا.. ويقبع في أصغر صندوق الجوهرة الثمينة، لعبة الصناديق هذه تجدها في كل الثقافات، هندية وفرعونية وبابلية وآشورية وفارسية، حتى في أمريكا الجنوبية البيرو والمكسيك، يقولون إن هناك شبكة كاملة من السراديب والممرات تحت القرية تقود إلى القرية أو المدينة القديمة، وفي تلك الممرات هناك حراس، الحراس طبقاً للأساطير والحكايات الشعبية هم من أشد أنواع المردة والشياطين والعفاريت طراً، والممرات تربط بين القصر أو دوار العمدة وبين معبد يختفي تحت أطراف القرية، هناك من يقول تحت المقابر وهناك من يقول تحت "التل الكبير"، هذا المعبد لا ينتمي إلى عالم البشر، بل إلى الكيانات القديمة التي سكنت الأرض قبل مجيء الإنسان.

قلت في دهشة: هل تعرف أنني بصدد التنقيب عن مقبرة تحت "التل الكبير"؟..

قال دون حماس: لا دخان دون نار، أعتقد أن الحكايات مبالغ فيها بعض الشيء، ولكن لا بد من وجود شيء تحت القرية، في طفولتي سمعت عن رجل وجد صولجاناً ذهبياً عند أحد أطراف التل، بعدها بأيام احترق بيت الرجل واستطاع سكان القرية إنقاذ الرجل، ولكنه تشوه تماماً وفقد سمعه وبصره والقدرة على النطق، بعدها بأيام اختفى الرجل، أعتقد أن هذه الحكاية ظلت تتضخم حتى وصلت إلى الوضع الحالي، أنت تعرف أن معظم الأساطير تنشأ من لا شيء، أنت تعرف أن القرية قائمة على أنقاض مدن قديمة تمت إلى العصر الفرعوني والروماني، على مرمى حجر من القرية تقع "صوعن" أو "صان الحجر" المدينة العبرية التي ذكرت في التوراة وولد فيها "موسى عليه السلام"، ولا تنسَ أيضاً أن الشرقية كانت عاصمة لمصر في عدة مناسبات تحت اسم "تانيس" أو "بوباستيس"، أعتقد أنك ستجد مقبرة فرعونية أو معبداً رومانيا توارثت الأجيال الحكايات عنه دون أن تعرف مكانه.

أما عن "الكيانات القديمة" فهي أسطورة تشبه حقيقة وجود الديناصورات على الأرض قبل وجود البشر، تقول الأساطير -وهذه الأساطير معظمها مستمد من كتب السحر الأسود، والتي استمدت بدورها معظم معارفها من خرافات الحضارات القديمة ووثائق عبرية وبابلية وفرعونية غابرة- إن هناك أنواعاً كثيرة من المخلوقات العاقلة سكنت الأرض قبل مجيء الإنسان، يطلقون عليها أسماء مثل المن والبن والجن وأشياء من هذا القبيل، ولما كانت الأرض بكراً فإن مقاومة الأخطار هو اسم لعبة الحياة، وبالتالي جاءت هذه المخلوقات بمواصفات جسدية هائلة ولها قدرات خارقة، أبناء الأرض كما يمكن أن نطلق عليهم، لهم دورات حياة طويلة لدرجة تصل إلى الخلود، وكل مخلوق متفرد لدرجة تجعله أشبه بجنس ونوع مستقل تمام الاستقلال عن الأنواع والأجناس الأخرى، ودامت معارك بين هذه الأجناس لمدد زمنية طويلة جداً، وقبيل مجيء الإنسان إلى الأرض نزحت هذه المخلوقات إلى الجبال العالية أو إلى تحت الأرض حيث لا يمكن أن يجدها الإنسان، هذه الأساطير غريبة جداً ويتعامل معها رجل الشارع على أنها من المسلمات، ماذا يوجد تحت الأرض؟.. سؤال أطلقته كل الحضارات القديمة وهو السؤال العكسي لـ"ماذا يوجد في السماء؟"... ولما كانت السماء تعطي إيحاءً قوياً بوجود قوى الخير والصلاح والنقاء، فإن باطن الأرض أعطى إيحاءً بوجود قوى الشر والتدمير، وبين السماء والأرض يوجد البشر حيث تتعادل القوتان وحيث يمكنهم العيش بقدراتهم البسيطة، لاحظ أن الأديان السماوية أعطت تلميحات يمكن تفسيرها على هذا النسق، لاحظ أيضاً أن أي ساكن يتجنب بشكل أو بآخر السكن في دور أرضي، لماذا؟.. على الرغم من أنه عادة لا يعرف الإجابة ولكنه يحاول قدر الإمكان الابتعاد عن الكيانات القديمة التي تسكن تحت سطح الأرض، إنه شيء داخل وجداننا جميعاً.. ولكن دعني أحذرك مرة أخرى من القرية، لا تمشِ أبداً في أروقة القرية وحدك، ولا تغادر بيت الشيخ "صالح" أبداً بعد صلاة العشاء.

قلت ساخراً: وطبعاً أنت تطالبني بتصديق كل هذا؟...
قال بهدوء: لا أطالبك بشيء سوى إتمام عملك بهدوء وسرعة ودون مشاكل، ولا تنسَ أن دراسة هذه الخرافات هي أكل عيشي.. أي لا بد أن أتعامل معها على أساس ما من التصديق، وإلا فقدت عملي وقدرتي على التعامل معها.

ولكني عندما غادرت منزلي في تمام الثامنة صباحاً متوجهاً إلى محافظة الشرقية، كنت قد تناسيت كل هذه الحكايات وبدأت أفكر في إنهاء مهمتي واكتشاف مدخل المعبد...

* * *

» حكايات القرية الجزء الثالث
» حكايات القرية الجزء الاول